دكتور جيكل ومستر هايد

في أحياء لندن القديمة، حيث تتداخل الضباب الكثيف مع أضواء الغاز الخافتة، كانت هناك قصة تُروى في النوادي السرية والشوارع المظلمة، قصة عن رجلين في جسد واحد، وعن الشر الذي يسكن في أعماق كل إنسان. كانت هذه القصة تتعلق بالدكتور هنري جيكل، الطبيب النبيل والعالم البارع، الذي كان يُعرف بين أصدقائه بأنه رجل ذو أخلاق عالية وذكاء لا يُضاهى. لكن خلف هذا الوجه الهادئ، كان هناك سر مظلم يهدد بتدمير كل شيء.
البداية: صداقة غابرييل أتكينسون
كان غابرييل أتكينسون، المحامي الشاب والموثوق، صديقاً مقرباً للدكتور جيكل منذ سنوات. في إحدى الليالي الباردة من أواخر الشتاء، كان أتكينسون يتجول في شوارع لندن مع ابن أخيه إنريكو إنفيلد، عندما شاهدا مشهداً غريباً. رأيا رجلاً قصيراً ومشوهاً، ذا وجه شاحب وملتوٍ كأنه من كابوس، يدوس على طفلة صغيرة في الشارع دون رحمة، ثم يدفع لأهلها فحسب ليُسكتهم. كان ذلك الرجل يُدعى مسار هايد، وكان اسمه يثير الرعب في الجميع الذين سمعوا به.
أخبر إنفيلد أتكينسون أن الرجل هذا كان مرتبطاً بمنزل الدكتور جيكل، الذي يُستخدم كمدخل خلفي سري. أثار ذلك شكوك أتكينسون، فكيف لصديقه النبيل أن يتعامل مع مثل هذا الوحش؟ لم يكن يعلم أن السر أعمق مما يتخيل.
السر الخفي: تجربة الدكتور جيكل
في مختبره السري، الذي كان مليئاً بأنابيب الزجاج والمحاليل الملونة، كان الدكتور جيكل يعمل على نظريته الجريئة. كان يؤمن بأن الإنسان يحمل داخل نفسه جانبين: الخير النقي والشر الخام. وكان يحلم بفصل هذين الجانبين، ليحرر الروح من عبء الشر دون فقدان الذات. بعد سنوات من التجارب، نجح في اختلاق تركيبة كيميائية غامضة – مزيج من الأملاح والسموم – تحولت إلى سائل أخضر لامع عند الخلط.
في ليلة ممطرة، شرب جيكل التركيبة أمام مرآة المختبر. شعر بجسده يرتجف، ووجهه يتشوه، وعظامه تتقوس. عندما انتهت التحول، لم يكن هناك سوى مسار هايد: الرجل الشرير الذي رآه أتكينسون في الشارع. كان هايد قوياً، خالياً من الضمير، يشعر بالحرية في فعل الشر دون خوف أو ندم. عاد جيكل إلى شكله الأصلي بعد ساعات، لكنه شعر بإدمان غريب على تلك الحرية المظلمة.
بدأ جيكل في استخدام التركيبة بانتظام، يتحول إلى هايد ليُفرغ غضبه في الشوارع، يرتكب جرائم صغيرة ثم كبيرة. كان هايد يُثير الرعب: يضرب الغرباء، يسرق، ويُشعر الجميع بالاشمئزاز من مظهره وأفعاله. لكن جيكل، في صباح كل يوم، كان يعود إلى حياته الاجتماعية، يبتسم لأصدقائه، ويخفي السر تحت قناع الاحترام.
التصعيد: الجريمة الكبرى
مع مرور الوقت، أصبح التحول أسهل، والتركيبة أقوى. كتب جيكل في مذكراته: “كنت أعتقد أنني أسيطر على الوحش، لكنه بدأ يسيطر عليّ”. ذات ليلة، في حالة غضب هستيري، تحول هايد إلى الدكتور دانيال كاريو، صديق جيكل القديم والنبيل، وضربه بعصا حتى الموت في غرفة الرسم في منزله. كانت الجريمة فظيعة، وأثارت صدمة في لندن بأكملها. بحثت الشرطة عن القاتل، لكن الوصف كان دائماً نفسه: الرجل القصير المشوه، مسار هايد.
أتكينسون، الذي كان قد زار جيكل في ذلك اليوم، وجد صديقه يرتجف في غرفته، وصرخات الشرطة تدوي خارج الباب. حاول جيكل إخفاء الأمر، لكنه شعر بالذنب يأكله. أغلق المختبر، وحرق بعض الوثائق، لكنه لم يستطع التوقف. كانت التركيبة قد أصبحت جزءاً من دمه.
النهاية: الاعتراف والانهيار
مع تزايد الشكوك، زار أتكينسون المنزل مرة أخرى، ووجد الخادم يروي قصصاً عن الرجل الغريب الذي يأتي ويذهب. في النهاية، تلقى أتكينسون رسالة من جيكل، تطلب منه الحضور الفوري. عندما وصل، وجد الدكتور ميتاً، ملقى على الأرض بجوار قارورة فارغة من التركيبة. لكن قبل موته، ترك جيكل اعترافاً كاملاً في رسالة طويلة، روى فيها كل شيء: التجربة، التحولات، الجريمة، والمعاناة.
كتب جيكل: “كنت أعتقد أن الشر يمكن عزله، لكنه كان ينمو داخلي كالسرطان. مسار هايد لم يكن غريباً، بل كان جزءاً مني، الجزء الذي أخفته طوال حياتي. الآن، أرى أن الإنسان ليس خيراً أو شراً، بل مزيجاً من الاثنين، ومحاولة الفصل تؤدي إلى الدمار.”
قرأ أتكينسون الرسالة بصدمة، ووعد بأن يحافظ على السر، لكنه علم أن القصة ستنتشر يوماً ما. وفعلاً، بعد سنوات، أصبحت قصة الدكتور جيكل ومسار هايد أسطورة، تذكرنا بأن الشر ليس في الخارج دائماً، بل في أعماقنا، ينتظر اللحظة المناسبة للخروج.

